التنافس بين الحياة والموت




فطر الله الإنسان على حب التنافس والتسابق ,, وما أجملها من فطرة تربى النفس على طلب المعالي  ..وتحطم حواجز الضعف عند المرء ! وترتقي الأرواح إلى مراقي الصعود ,, والتنافس لغة المبدعين الذين عشقوا الوصول إلى القمة في تحدي وعزم  !والتنافس تشعل طاقات الشباب للإبداع في العمل , والإنتاج المميز , تحطم قيود الكسل والتخاذل والتراجع بل التقدم دائما , ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن ..على ماذا يتم التنافس اليوم؟؟؟؟

أغلب شبابنا اليوم يتملكهم الاندفاع , والرغبة الكبيرة للتسابق والتنافس والفوز , وهي رغبة نفسية تداعب فكر كل شاب , لأن مرحلة الشباب هي مرحلة المغامرات والمنافسات , وشهوة التنافس هي شهوة ملازمة لأي شاب يسعى لطموح معين قد يجنيه من شهرة أو الوصول إلى ذروة القمة أمام أقرانه , فيتباهى  بمجده الزجاجي هذا وإن كان في أمر لا يستحق .

فهناك سباق السيارات بشتى أنواعها , حتى أصبح التسابق على هذه المركبة من الجنون ولا يبالي البعض بخطورتها  , وفتكها للأرواح الفتية  ,  وأصبح لدى الشباب هوس التسابق بالمركبات لما يروج لها في الإعلام من لذة حتى  أصبحت هوس عند بعض الشباب .

فضلت في مقالي هذا أن أبدأ بذكر تنافس شبابنا اليوم , لكي أوضح للقارئ الكريم الفرق بين شباب اليوم وشباب الأمس , ولكن استوقفتني عبارة للحسن البصري وهي عبارة جميلة تستحق أن تكتب بماء الذهب يقول " :من نافسك على الدين ..فنافسه ! ومن نافسك على الدنيا ..فلا تتردد أن ترمي  بها إلى أحضانه  ! "

فلو عقدنا مقارنة بسيطة بين المنافسة في عصرنا الحالي والمنافسة في عصر العظماء والعلماء وعصر الصحابة الكرماء  ..لوجدنا من الفروق ما يحزن القلب ويدمي الفؤاد  ..فكان التنافس لدى جمهور الصحابة الجلاء من نوع فريد , تسمو الروح به إلى أعلى الرتب , وتبلغ الثريا في علوها .. فلا عجب أن تكون الأمة الإسلامية آنذاك هي الأمة القائدة والحاكمة لفترة من الزمن , وهذا يدل على تلك الأرواح التي جبلت على السبق والتنافس الإيماني في سبيل المجد .
فإذا تطرقنا على بذل المال مثلا تجدهم شعلة من التنافس الشريف,  فلا وجود لنفس الشحيحة بينهم ! فكثيرا ما قرأنا في كتب السير عن التسابق بين الصديق والفاروق , و ليس في بذل المال فحسب بل التسابق على كل ألوان البر والإحسان  ,فانطبقت عليهم هذه العبارة..
"قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات"

وقد فسر سيد قطب الآية (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)في سورة المطففين
بأن التنافس على نعيم الآخرة لا يدع الأرض خرابا بلقعا  , كما يتصور بعض المنحرفين إنما يجعل الإسلام مزرعة الآخرة  ,,ويجعل القيام بخلافة الأرض بالأعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق  ..على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله سبحانه "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " .

فإذا كان سيد قطب قد ربط أي تنافس في الوجود بغاية الوجود نفسه ..فإنا ما نراه في هذا الزمان من تنافس دنيوي بحت ينافي كلام سيد قطب تماما !!!فأنت لا ترى في هذا العصر إلا أجساد بشرية من ورق خاوية الروح , فارغة العقل , تتنافس على أمر حقير , لا يسمن ولا يغني من جوع .. فبقدر ما تكون المنافسة جادة وبقدر ما يكون الأمر المتنافس عليه عظيما تتقدم الأمم , ويسطر النصر لها بمداد الذهب  ..وكلما كان التنافس على الدنيا  , وزخرفها تراجعت الهمم , وانهزمت الأمم , فصارت أمة ضعيفة , رضيت لنفسها أن تعيش في نهاية الركب , وتلبس قناع الشيخوخة في سن مبكرة ,,

ربما مغريات هذه العصر تدفع الشباب اليوم لصنع تنافسات غريبة , وجديدة , بها إثارة , وحركة , ورياضة , فيرى البعض أن الحياة مملة وراكدة , إذا لم يكن هناك تنافس وتسابق حتى ولو كان هذا التنافس على حساب الأرواح  , وهذا يدفعني أن أقول أيهما أفضل الموت في سباق مشرف أم الموت في سباق مجنون , تفقد فيه الروح ليكون صاحبها قد أجرم في تلك الروح التي أودعه الله إياها , وأصبح في زمرة المنتحرين  ؟!

ربما علينا حينها التفكير بجدية أكثر في مفهوم التنافس بمعناه الحقيقي , فعبر التاريخ كان من أسباب انهيار الأمم الظلم والترف و أصبح في عصرنا الحالي للإعلام دورا في تراجع الأمم أيضا , فإذا كان الإعلام هو المحرك في وجدان الشعوب اليوم , فعلى الإعلام إذا أن  يوجه صورة مشرقة حتى تتحرك الشعوب نحو النجاح , أما إذا بث صور مشوهه وأفكار جنونية عبثية , حينها قل السلام على الشعوب , وهنا أستطيع القول:" أعطني إعلاما جيدا أعطيك شعبا راقيا فكريا وناجحا عمليا "

ولكن للأسف  فحال أعلامنا  يدمي  القلوب ,  ويحزن الشعور وذلك من خلال ما يبث ويعرض على القنوات الفضائية فمن المضحك المبكي !!  أن ترى برامج قد تبلغ تكلفتها أموال طائلة يكون الهدف منها إما التنافس على إعداد طبخة ما أو السبق على صوت جميل أو القدرة على التمثيل الفني الهابط فما أكثر النجوم في عصرنا .. ولكنها نجوم مظلمة!! أو التنافس على رياضة مجنونة لصرف أنظار الشباب وطاقاتهم نحوها .

وكل هذه الأمور لا تزيد الأمة إلا وهنا وضعفا..  فالإعلام يفتح شهية الشباب للاهتمام بالقشور والتنافس عليها , مما يكلفهم طاقات جسدية هائلة في أشياء لا تنفع وتجعل القلوب تصاب بداء حب الدنيا والتعلق بها إلى أبعد الحدود ..

 لهذا تمنيت في لحظة ما أن يكون هناك تنافس على الاختراعات , أو التنافس على القراءة  , أو التنافس على العلم  , أو التنافس على الابتكارات , حتى تعود تلك الأمجاد الذهبية للأمة !!! ألم يعلّم المسلمون البشرية علوم الحياة من علم الاجتماع لابن خلدون وحتى علم الفلسفة لأبن رشد , لماذا انقلبت الموازين اليوم وأصبحنا كغثاء السيل دون إنتاج يحسب علينا بين الأمم , ولم نساهم ولو بالقليل في هذا العصر الرقمي  , لأننا وبكل صراحة انشغلنا بمنافسات غبية , وبمسابقات ساذجة.

وكما يضيف السيد قطب : " أن السعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع .. أما السعي لغرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا و بيتا تأكل فيه الديدان بعضها البعض أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين"


بقلم/آهات قلم