وسقطت ورقة التوت




عصر يضج بالمتغيرات , ترى أن هناك ما يحدد مأكلك ومشربك وملبسك , لم تعد تملك قرارك في أبسط الأشياء حتى ما يخص معدتك  من طعام وشراب , فأنت تأكل  حسب ما تراه في الإعلانات التجارية في القنوات الفضائية , وتلبس حسب آخر الموضات , تسابق الزمن حتى تواكب العصر , فما يبث في وسائل الإعلام أصبح يحدد لك حياتك كلها , وحياة أسرتك , وحياة أطفالك , الكل يطمح لشراء السلع بالماركة المعينة التي تظهر في الإعلان المقروء أو المسموع أو المشاهد  , فأصبح هناك هوس لبعض الماركات التجارية لدى الأفراد .

لهذا يجرني هذا الوضع لطرح تساؤل لك أيها القارئ الكريم :
هل أصبح للإنسان خصوصية بينه وبين نفسه؟!هل بات يملك الإنسان قراره أم أن تطور الحياة بات يلزمه بتغيير كل شي حتى أحيانا في تغيير قناعاته؟؟ , لقد أصبح العالم قرية صغيرة فعلا , وبات يفرض عليك نمط معيشتك , وحتى طريقة أفكارك , هذا العالم الذي سلب من الإنسان هويته وثقافته أو حتى أخص الأشياء التي يمتلكها ، وأصبحت بعض الأخلاق الإسلامية تذوب في فضاء العولمة تدريجيا دون رقيب أو حسيب..  وأصبح هناك انزلاق رهيب عن المبادئ والقيم ولم يعد للأعراف والتقاليد ذاك الاحترام العظيم  في بعض العقول....

للأسف لقد أصبح ( القوي  (صاحب النفوذ) والغني (صاحب المال يفرض  ثقافته وطقوس حياته على أغلب المجتمعات الفقيرة والمتخلفة  ...وكأن العولمة وحش يلتهم كل شيئا جميل في الحياة - كالطبيعة و المحبة و القناعة و الأخلاق النبيلة .. واه ٍ على هذا العالم الأسيف الذي يتخبط هنا وهناك .

والمصيبة العظمى إذا لم تكن تؤمن بالعولمة فأنت إنسان بدائي ، تحمل جينات الإنسان الحجري القديم , ولا تستطيع طبعا أن تتجاهل أمر العولمة أبدا لأنه واقع تعيشه ، رضيت بهذا أم أبيت , وربما ليس من الإنصاف أن أقول أن هذا التطور الذي يشهده العالم لم تستفد منه البشرية بل على العكس تماما ولكن لكل أمر له إيجابياته وسلبياته أيضا  ,  وأكبر ايجابية للعولمة  تسهيل الاتصالات  بين البشر , والتواصل بأكثر من وسيلة اتصال , وأصبحت قلوب المغتربين أقرب , رغم بعد المسافات بينهم ,  

ولكن في نفس الوقت ربما الأضرار كبيرة أيضا للعولمة وخاصة ما يخص الجانب الثقافي والجانب الحضاري لكل بلد...... وما نستشعره أيضا  في أنفسنا من التبعية للآخر ولم نعد نمثل القناعات التي نؤمن بها أو التي تربينا عليها , بل القناعات التي يؤمن بها الغير والتي تملي علينا طرق معيشتنا , الغير الذي كان قدره في الحياة أن يكون  الأقوى والأكثر مالا , فتشعر كم أنت غريب في هذا العالم الحيران بكل ما فيه؟؟

فإذا كنت مثلا لا تأكل البرجر ولا تشرب البيبسي ولا تلبس الجينز ولا تعرف نجوم هوليود , إذا أنت في نظر البعض متخلف بعض الشيء أو "دقة قديمة"  كما يقال!!!!  وتحاول أن أتظهر أن لك تحفظات في تقبل العولمة ، حتى ولو شعرت أنك تسير بمفردك في عكس اتجاه الرياح .

والمؤسف أيضا  أن أحاديثنا اليومية ،باتت لا تخلو عن حديث غلاء الأسعار والبورصة والأسهم وغيرها , لقد أصبح الجانب الاقتصادي يسيطر على القلوب والعقول معا .. إن تأثير العولمة قد تجاوز الحدود في بعض الأماكن , حتى بات يلامس مشاعرنا  ، وحتى علاقتنا الاجتماعية , لقد ماتت بعض القيم الجميلة دون أن نشعر أو مجرد التفكير في استرجاعها....

 فترى اليوم الحاسوب والإنترنت يأخذ جل أوقات الشباب  , وترى بعض النساء تجلسن على جهاز التلفاز بالساعات من مسلسل  إلى مسلسل دون توقف , وترى بعض الآباء  يقضون أغلب أوقاتهم  على الجهاز الخليوي , وترى الأطفال في عالمهم الخاص مع لعبة إلكترونية لا ندري ما حجم العنف الذي تبثه , والأفكار المسمومة التي تغرسها في فكرهم  , فكل فرد من الأسرة أصبح له عالمه الخاص  , وحياته الخاصة , حتى تشعر أنك لست في بيت يضم أسرة بل في فندق به عدد من الغرف وفي تلك الغرف نزلاء غرباء عن بعضهم البعض , فلم تعد الأسرة كما كانت سابقا , هي نواة المجتمع  , أصبح هناك خلل  فيها واعوجاج لابد من إصلاحه ..

لقد قرأت مقال بسيط في إحدى المجلات للكاتب (يحيى جابر) مقال اسمه " العولمة والحب  " وأظنه ناقما على العولمة التي  بات لها أثر حتى في الحب بين البشر فذكر في مقاله :" هل أصبح هناك حب يخضع لذوق الشاشات الكبرى والصغرى , كأن تجد الحب تلفزيونيا ، أو الحب سينمائيا ، أو الحب على طريقة الفيديو كليب ؟هل تقرر شركات الإنتاج الموسيقية أي حب نغني ، أو أي حب نرقص معه , ونحن كزبائن للحب , مستهلكون أغبياء ؟ هل الحب صرعة من الصرعات الشبابية , وكأنه إكسسوار لتزيين الحياة ؟ ...هل يحتاج هذا العالم إلى الحب ؟ أم أن الحب أصبح أزمة عالمية كالمياه ... كالنفط ... كالقمح .. لذلك تندلع الحروب بحثا عن حب آخر ليكون مورد لحياتنا ؟ "

  فمن هو المسئول عن هذه الفوضى الفكرية التي نعيشها الآن هل هو الإنسان الغني القوي الذي بات يحكم العالم بقبضة من حديد؟؟أم أنت أيها المسلم المتهاون الكسول الذي أنستك دنياك واجبك وأنستك من تكون؟؟ وأصبحت غارقا في ملذاتها التي لم تكن لك يد فيها لأنك لم تساهم في صناعتها أبدا , لأنك وبكل بساطة إنسان مستهلك من الدرجة الأولى ولست منتجا!! فقد تعودت أن تجد ما تريده دون عناء أو مشقة ، دون أن تسأل نفسك من أين لك هذا ؟ تساؤلات تجر تساؤلات فهل بقت لنا ورقة توت واحدة أم أن الورقة الأخيرة قد سقطت أيضا...؟!!



بقلم / آهات قلم