التربية العصرية


لطالما تساءلنا كيف كانت التربية في عصر أجدادنا ؟ كيف ربى أجدادنا آباءنا ؟ فنصل إلى أن التربية في عصر الأجداد سهلة وبسيطة , فلم يكن هناك شركاء في التربية , فلا وجود للقنوات الفضائية , ولا وجود للهواتف الخليوية , لا وجود للحاسوب والإنترنت , لا وجود من يشارك الأب والأم في تربية الأبناء آنذاك , سوى تلك العصا التي كانت لا تغادر يد الوالد أو يد معلم القرآن , فالتربية قديما كانت تحمل سمات غريبة في العقوبات , مع أنغام سياط العصا التي تتموج على الجسد.

ذهب أجدادنا , وكبر آباؤنا , وولدنا نحن في عصر يضج بالمغريات والتقنيات التي ما ألفها الآباء والأجداد في عصرهم المنصرم , وأصبح هناك شركاء حقيقين في التربية , ولهم أثر ودور كبير في ذلك , فلم تعد التربية قاصرة على الأب والأم , بل تعدت الأسرة , ليكون لتلفاز دورا في غرس الأفكار الجديدة في عقول الأبناء , والإنترنت الذي بات يشكل دورا أساسيا في حياة الأبناء , ودور الهواتف النقالة , تلك الصناديق الإلكترونية التي باتت تشكل لكل فرد حياته الخاصة وعالمه الخاص به , وأصبح الانفتاح على العالم الخارجي يشكل انفتاح في تربية الأبناء أيضا , وكأن التربية انزلقت من يد الأسرة التي نشأت في ظل الأجداد الذين لم يعوا معاني التربية العصرية , وهنا دعوني أسأل سؤالا في غاية الأهمية هل يصح أن نربى الأجيال اليوم بطريقة تربية الأجداد في الماضي ؟

هنا اعتقد سيكون الجواب ( لا ) , لا يصح أن نربي الأبناء بتلك الطريقة القديمة , وهنا لا أعمم حتى لا يظن البعض أني أنتقد تربية الأجداد على العكس تماما كانت هناك نماذج جميلة ظهرت في شخصيات كانت من أهل العلم والورع , تدل على النهج السليم , والوعي التربوي لدى بعض الأجداد , ولكن أنا أنتقد التربية القديمة القائمة على القمع , وكبت الرأي , والطاعة العمياء , والخشونة والغطرسة الأسرية في حق الأبناء , , بهدف أن يكون الأبناء رجالا يتحلون بالشجاعة والإقدام , واعترض أن تكون تلك التربية تصح لهذا الزمان , أتدرون لماذا ؟!

بكل بساطة أقول كلما تطور العصر , تطورت التربية أيضا , وأصبحت مشاكل الأجيال في تزايد , في السابق كان يخشى الجميع الخوض في مسألة التحرش الجنسي أو الاغتصاب ,أو العادة السرية أو الشذوذ الجنسي , ولكن أصبحنا في عصر , نتناول هذه المشكلات بكل بساطة دون حرج , فالوضع تأزم في المجتمعات , والآفات الجنسية طالت أغلب المراهقين , وهذا يعود لقلة الوعي في الأسر , والخجل الاجتماعي من معالجة قضايا كهذه تمارس في الظلام أو من تحت الطاولة..

إذا على الجميع أن يقتنع أنه لابد من تربية عصرية تناسب الزمان والمكان , وليس البقاء على نمط واحد في التربية , وهذا يتطلب قناعات من أولياء الأمور الذين تربوا على تربية الأجداد القديمة التي كانت ظروفها مختلفة تماما عن ظروف هذا العصر..

فأغلب المشاكل الأسرية اليوم تدور حول موضوع واحد وهو غياب الحوار بين الأجيال , وهذا يتطلب مصالحة أسرية بين الأجيال إذا استطعنا أن نسميها مصالحة بمعناها الحقيقي , فكما هو ملاحظ هناك جفاء أسري , وصعوبة تقبل أفكار الأبناء من قبل الآباء والأمهات , وهذا يعود لاختلاف الظروف الفكرية والعصرية , وهذا ما قصدتُ به في المصالحة بين الأجيال...

سيجد الأب والأم صعوبة بالغة في تربية الأبناء على نهج الأجداد , فعصرهم ليس كعصر الأبناء اليوم , وظروفهم ليست كظروف الأبناء اليوم , وهذا يشكل صراعات أسرية بين الأجيال , بسبب أن الأبناء يفكرون بطريقة مختلفة عن تفكير الأبناء , فلا توجد قنوات مشتركة بين الآباء والأبناء , فمازلنا نعاني من دكتاتورية الآباء , ومن تمرد الأبناء , وأصبح حجم الفجوات بينهما كبير , ولم يعد هناك مجال في تقبل فكر ومنطق الآخر , لأن كلاهما يفكر بطريقة بعيدة كل البعد عن الآخر , فيلجأ الابن إلى أصدقاء لا يعرف هويتهم الفكرية كيف تكون ؟ هل هي صحيحة أم لا ؟! المهم .. شعوره بأريحية معهم لم يجدها في البيت , شعوره بقيمته الحقيقة خارج البيت , شعوره أنه موجود ومتحرر خارج البيت , فبدأ يتشرب من تلك الهوية , ويلتصق بها , رغم أنها قد تخالف دستور الأسرة ومنهجها ,

وهكذا يستمر الصراع بين الأجيال , وأصبحنا ندور في دائرة مغلقة , سأضرب مثالا بسيطا جدا , هناك من يعتقد من الآباء أنه من العيب أن يمنح ولده المراهق الحنان وأن يقبله , لأنه يعتقد أن بهذه الطريقة سوف يفسده , ويغرقه بالدلال , ولن ينضج ليسير رجلا ! وهذا المنطق خاطئ للأسف في أذهان بعض الآباء , ولهم العذر في هذا المنطق فهم يستخدمون أسلوب تربية مورثة من الأجداد قائمة على أسلوب معين , لهذا لا يعرفون قيمة العناق والملامسة الجسدية بين الأب وأبنه المراهق , أو بين الأم وابنتها المراهقة...فـ فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال!!

واقصد بالملامسة الجسدية هنا أن على رب الأسرة الوالد أن يحضن ولده أن يغرقه بالحنان أن يقبله حتى يشعر المراهق بالراحة النفسية والراحة العاطفية الدافئة الصادقة يشعر بجسد والده الحنون يحتويه ويضمه , يشعر بالحب الذي للأسف نفتقده في بيوتنا اليوم ,وكذلك الأم عليها بحضن ابنتها المراهقة وإغراقها بالحنان هذا ليس عيبا وليس حراما لماذا بعض الأهالي قساة في إعطاء الحنان لأولادهم ؟؟!

من قال أن الطفل حين يكبر في سن المراهقة أو حتى في سن العشرين لا يريد حنانا وعناقا من قبل والده أو جده أو عمه أو خاله؟لماذا هذه الغطرسة في التربية ؟ لماذا نربي بطريقة قاسية حتى ينحرف الأبناء فيما بعد عن الفطرة الصحيحة؟!

وسوف اذكر حادثة للرسول الكريم حين كان يداعب الحسن والحسين وأقبل رجل وقال له : والله يا رسول الله عندي عشرة أبناء وما قبلت واحدا منهم فقال الرسول : (ماذا أفعل بك إذا نزع الله الرحمة من قلبك) , والجميع يتفق معي أن الرحمة هنا هي الحنان والحب . فمتى يا ترى سوف ننعم بهذا الحب في بيوتنا المسلمة ؟! امنحوا أبناءكم الحنان والحب حتى لا يبحثوا عنه مع لصوص الأعراض....

اليوم أيضا لا ينبغي أن يستخدم الأهل أسلوب فرض الرأي على أبناءهم , بل استخدام الحوار , والمشورة , جميل لو كانت هناك علاقة صداقة بين الآباء والأبناء , حينها سيكون الوضع الأسري أفضل , والروابط أقوى , تذوب الأسرار بين الطرفين , ولا داعي للبحث عن هويات فكرية أخرى خارج البيت , منح الثقة للأبناء مهمة جدا , ولا أقصد مد خيوط الحرية لهم دون رقابة أبدا , أن يُمنح الابن الثقة في سن مبكرة هذا يربي في داخله قيم كثيرة , تجعله يشعر بقيمة ذاته , نعم قد يخطئ الأبناء ولكن لا توجد نفس معصومة من الخطأ , لندعهم يخطأون ولكن لا نغفل عن مراقبتهم من بعيد , لنكون بعدها الصدر الحنون لهم , والمستشار الحكيم , وهنا فرق بين السيطرة وبين الحرص عليهم , ففي نهاية المطاف سوف يخرج الابن من تحت عباءة والده ليبدأ حياته كما يريد , وتخرج الفتاة كذلك من حضن أمها لتبدأ حياتها هي الأخرى...

ذكر كامل محمد محمد عويضة في كتابه (السلوك الإنساني) :" إن الفلسفة التربوية التي ننادي بها , لكي نحق للمراهق التكيف السوي ونجنبه الأزمات والصراعات , هي أن نعمل جاهدين على ( تأكيد الأنا ) لدى الشباب .. ونعني بتأكيد الأنا بروز سجايا المراهق , أي طريقته الخاصة في السلوك حسب ميوله .......
فأننا نتيح له ضروبا من التقدم السريع الحاسم في حياته , كي نساعده على أن تتخذ شخصيته شكلها الطبيعي المتكامل ..أن تجاهل الأنا في محيط الأسرة والمدرسة يعرض المراهق للكثير من الصعوبات , إن العائلة هي الوسط الطبيعي للطفل حتى يستطيع فيها أن ينفتح تماما . إلا أنه يحدث أحيانا أن تمر روابط البنوة بأزمة مخيفة تؤدي إلى تحطيم الرباط العائلي , يحدث ذلك بسبب رغبة بعض الآباء في السيطرة على أبنائهم , والمدرسة هي المجال الآخر الذي لا يسمح في بعض الأحيان ( لأنا ) المراهق أن تتفتح , فغالبا ما يشعر المراهق أن المدرسة عقبة أخرى في سبيل الاستقلال الذي ينشده , ويرى أن النظام المدرسي حتى في أحسن الشروط يعرقل التكيف ."

فلا يظن البعض أن العنف والضرب هو الوسيلة الناجحة لتربية , انتهى زمان العنف , وأصبح الجميع له الحق في الدفاع عن نفسه , فالتربية العصرية التي أقصدها لا أقلل من قيمة احترام الأب والأم , أو اخلق أجواء الفتنة في الأسرة على العكس تماما , أنا أدعو للمحبة والود بين أفراد الأسرة , واحترام الإنسان لإنسانيته مهما كان سنه , فالمرء بأصغريه قلبه ولسانه , وهذا العصر يجعلنا نتوخى الحذر في التعامل مع الأبناء حتى لا نفقدهم أخلاقيا ودينيا وحتى فكريا ,

حين نربي طفل عاش مع النت والتلفاز والنقال , علينا أن نتعامل معه بذكاء وحكمة ودهاء , فهو يملك عقلية ذكية , وفكرا متحررا , فالتقنية الحديثة جعلت منه شخصا يملك فكرا وعقلا , ولا يجوز الاستهزاء بعقليته أو فرض عليه ما نريد , فالمشاركة والحوار هما أنجح طريقتان لكسب الأبناء , وحتى يتسلل عندهم شعور الانتماء والوجودية في قلب الأسرة , فالتربية العصرية لا تطلب سوى الاحتواء الجاد من الآباء للأبناء ..اختم بمقولة لسيد الخلق : " ربوا أبناءكم لزمان غير زمانكم "

بقلم / آهات قلم

هناك تعليقان (2):

  1. مقال رائع سيدتي الفاضلة .. تعرفي ان تربية الأطفال اليوم أصعب مما كانت عليه في زمن أجدادنا بسبب ما ذكرتي من تداخل الجهات التي تؤثر في سلوك الطفل وتُشكل قمية ومبادئه ..ولكن كما قيل كلكم راع وكلكم مسؤال عن رعيته .. علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لحمايتهم وتفير الأمان العاطفي والحنان .. فهم ليسوا بحاجة للملابس فقط أو الأمور المادية بل للحنان والعطف والتفهم وهي امور تفوق الأمور المادية أهمية .. أشكرك على تركيزك علة هذه القضايا الرائعة

    ردحذف
  2. شكرا لكم

    أتمنى من آباء المستقبل فعلا أن يفهموا أبنائهم جيدا

    وخاصة في سن المراهقة هذا السن الذي تنضج في الشخصية

    لابد من ذوبان الحواجز بين الآباء والأبناء

    ردحذف